كنت شاهداً على موتك يا الجنينة
سبتمبر 8th, 2023 - كتب المقال: إبراهيم موسى شمو
كنت شاهداً على موتك يا الجنينة
مدينة الجنينة عاصمة سلطنة دارمساليت، المنطقة التي لم تخضع للاستعمار في قديم زمانها بكفاح سلاطينها وبسالة أبناءها الذين رفضوا أن يكونوا تحت طاعة المستعمر دفعوا ثمناً باهظاً من أجل الحرية، سقط حينها 10000 شهيد من النساء والرجال، قدموا أرواحهم رخيصةً في سبيل كرامتهم في ساحة معركة دورتي 1910 التي انتصروا فيها على الغزو الفرنسي. بعد تسعة سنوات انخرطوا في عملية تفاوضية معقدة مع المستعمر الفرنسي والإنجليزي لتقرير مصير شعبٍ مكافح حتى توج التفاوض باتفاقية قلاني في 1919. والتي بموجبها إنضمت اراضي السلطنة الشرقية إلى السودان، تاركة الجزء الغربي من أرضها لدولة تشاد دُفعت كتعويض للمستعمر الفرنسي في سبيل مغادرة أراضي السلطنة الشرقية التي تسمى اليوم ولاية غرب دارفور. ولقد ظلت سلطنة دارمساليت حرة بلا زرد سلاسل تشرق وتغرب شمسها وهي تغني بأشجار المانجو التي تكسوها جمالاً على طول ضفاف وادي كجا الممتد. ثم بعد مائة عامة من التضحية تخلى السودان عن شعب سلطنة دارمساليت يواجهون مصير الإبادة الجماعية على إيدي مليشيات الجنجويد والدعم السريع.
لم تمت مدينة الجنينة بالتهجير القسري الذي حدث في 14 يونيو 2023، ولكن ماتت تدريجياً بتكرار الأحداث المؤلمة التي أثقلت قساوة الحياة على رياضها الجميلة وطيبة إنسانها. ثم ماذا؟
صباح 24 ابريل/ نيسان2023 كان هادئاً مع أنسام عيد الفطر يتبسم على طرقات المدينة بفرحة الأطفال ولمّةُ الأسرة وكانت تكلله دعوات المسنين أن يجنب الله البلاد الفتن، ما ظهر منها ما بطن والعفو والعافية.
عند الساعة ثامنة صباحاً عبرت أحد عشر سيارة دفع رباعي محملة بعدد من جنود الجيش، حقيقة لم يكن مشهداً مألوفاً مع وتيرة أحداث السودان المتسارعة. لقد عبرت تلك القوات العسكرية قاصدة قيادة القوات المشتركة السودانية التشادية، التي تقع غرب المدينة، على بعد كيلو متر واحد عن قيادة مليشيا الدعم السريع. قبل وصولهم إلى هناك، تواترت أنباء عن تجمعات لمليشيات الجنجويد غرب المدينة، بغرض شن هجوم، كان هناك تحذيرات بأن المنطقة على سطح صفيح ساخن. ثم تفجرت الأزمة عند عودة قوات الجيش، حيث وقعوا في كمين نصبته لهم قوات الدعم السريع ومليشيات مساندة لها. سقط الجيش في الكمين، فرّ منهم من فر. وسرعان ما نقلت مليشيات الدعم السريع حربها مع الجيش إلى هجوم ضد اهداف مدنية في أحياء الجبل.
تسللت مجموعة من المقاتلين إلى مربعات حي الجبل، استهدفت المدنيين من الإثنيات الأفريقية. بحلول الساعة 10صباحاص فرعدد كبير من المدنيين إلى حي المدارس، بغية حماية أنفسهم. بينما إستمر العنف استمر العنف حتى وصل المسلحون إلى مداخل حي المدارس من الإتجاه الجنوبي، مستهدفين المدنيين كما قاموا بحرق المؤسسات العامة التي أصبحت مراكزاً لإيواء النازحين الذين فرو من معسكراتهم إبان الهجوم الأول على معسكر كريندنق وابوذر للنازحين2021. حتى الساعة الثانية ظهراً، قُتل أكثر من ثلاثين شخص داخل المكتبة المركزية (مكتبة الشاعر محمد المفتاح الفيتوري) التي يستغلها النازحون مكاناً لسكنهم. وبمرور الساعات ارتفعت وتيرة الإنتهاكات حيث كانت حصيلة اليوم الأول من الهجوم أكثر من خمسين قتيلاً ومائة جريحاً من بينهم الأطفال والنساء.
في يومي 25 و26 أبريل واصلت مليشيات الدعم السريع عمليات القتل والترويع في كل من حي الجبل، التضامن والثورة، ونهب وتخريب وإتلاف سوق مدينة الجنينة في توجّه واضح لسياسة حصار وتجويع للمواطنين، حيث تم نهب السوق ومحطات الوقود وملاحقة كبار التجار في منازلهم ونهبهم.
اختفت الشمس في مغربها وكان الناس ينتظرون ويترقبون ما سيحدث في 27 أبريل/نسيان حتى حل الصباح، كأنه شكلاً آخر من أشكال العنف. حيث شنت مليشيات الدعم السريع "الجنجويد" هجوماً عنيفاً على أحياء (البحيرة، الثورة، التضامن، المجلس، المدارس، الجمارك والمنصورة) مستهدفةً المدنيين. يرجع سبب تركيز الهجمات على هذه الأحياء إلى أن غالبية سكانها من قبيلة المساليت، استمرت عمليات إطلاق النيران من الساعة السادسة صباحاً حتى الساعة السادسة والنصف مساءً. ذلك اليوم كان عنواناً لتراجيديا الحياة جسّدت فيها واقعية كل القصص الخيالية التي كنّا نشاهدها في أفلام هوليوود، غطت أعمدة الدخان المتصاعدة من حرق المنازل، أشعة الشمس، كأنه انفجار بركان. تكدست الجثث في الطرقات وتناثر حولها الحطام بينما احترقت أخرى في مكانها، عشرات النساء والأطفال يصرخون لا حول لهم ولا قوة إلا من حلول السماء، في ذلك اليوم حرقوا كل مؤسسات الدولة وأتلفوا محطات المياه وشبكة الكهرباء. غربت شمس 27 نيسان وكان الحزن يمشي على الطرقات في هيئة إنسان، جفت دموع الأمهات. في ذلك اليوم، لم يتفاجأ الناس بسماع خبر وفاة أو جرح، حيث كانت حصيلة القتلى تجاوزت المائتين وأربعون شخصاً وأكثر من أربعمائة جريح.
خيم على المدينة حزناً صامتاً استمر لفترة أربع عشرة يوماً لم يحدث إلا قبل أكثر من مائة عام في حرب دروتي، حتى عرف الناس في ذلك اليوم، أن الدموع لم تٌحلق عبثاً، حيث كان الجميع يبحثون عن نقطة ضوء تخفف الدمعة التي يسقطها الحزن.
ثم أتى يوم آخر بعد مرور أسبوعين من الهجوم الثالث، الرابع، الخامس، السادس في أيام 12,13,14,15 مايو/ أيار 2023 أستخدم فيها الدعم السريع، شكلاً آخر من تكتيكاته القتالية للفتك بالآدمية. كانت قذائف مدفع الهاون عيار 82، و75-60 والـ RBG تستهدف اماكن تجمعات الفارين في حي المدارس، الذي امتلأ بالآلاف من المواطنين الفارين من الأحياء الجنوبية المذكورة. حيث كان سقوط كل قذيفة مأساة أخرى، أشلاء من جثث الأطفال، نساءً فقدنَ أطرافهن، لكن لا خيار أمام المواطنين سوى البقاء وانتظار الموت لأن المدينة محاصرة من أربعة إتجاهات، وكان ثمن أي تحرك مصير محتوم بالموت بسلاح القناصة، الذين ارتكزوا على أسطح المنازل المرتفعة مستهدفين أي إنسان بغض النظر عن عمره أو نوعه كونك داكن اللون سبباً كافياً لقتلك. خلال هذه الأربعة أيام سقط عدد كبير من الضحايا. ثم سكت صوت السلاح لخمس أيام أخرى، وبدأ الجوع ينهش ما تبقى من أجساد نحيلة متسبباً في وفاة عدد من الأطفال.
في 21 مايو / أيار 2023 استمرت الهجمات وتدهورت أحوال الناس ومات الأمل والرجاء حتى ما عاد الناس ينتظرون أي شئ سوى أن يموتوا بكرامة ويجدون من يواري جثامينهم الثرى. في يوم 24 مايو اكتمل شهراً كاملاً على انتهاكات حقوق الانسان، من إعدامات جماعية، خلال هذا الشهر كانت مليشيات الدعم السريع "الجنجويد" يمارسون القتل في الأحياء الجنوبية التي يسكنها المساليت وايضا كانوا يمارسون عمليات سلب ونهب واستهداف ممنهج لبعض الناشطين والمثقفين في الجزء الشمالي من المدنية التي تسكنها قبائل عدة.
مع الحصار المضروب على المدينة في الجانب الجنوبي، ونفاذ المؤن الغذائية وصعوبة الحصول على المياه بدأت تظهر أمراض مثل سوء التغذية وسط الأطفال وكبار السن حيث كان الأطفال يعانون من الجوع، كان أثر ذلك واضحاً في ملامحهم، عيون مجوفة وضلوع بارزة من تحت طبقة رقيقة من الجلد، كان كل يوم يتناقص عدد الأطفال بسبب الجوع والحصبة، ومنهم من مات بسبب بقايا القذائف المتطايرة التي اخترقت أجسادهم. ثم حلت الكارثة الكبرى بنفاذ الأدوية المنقذة للحياة والاوكسجين وتوقفت العمليات في عيادة الانقاذ التي كانت تستقبل كل الجرحى وكان المشهد مأساوي، ففي كل يوم يموت حوالي 3 من الذين قد أصيبوا بجروح وتتزايد أعداد القتلى مع سقوط كل قذيفة هاون يقصفها الدعم السريع في مناطق تجمع المدنيين.
إستمر الحال على هذا الوضع المظلم بتوقف كل الخدمات حتى يوم 14 يونيو / حزيران حيث قٌتل الوالي خميس عبدالله ابكر على أيدي الدعم السريع بعدما استطاعت السيطرة بصورة كاملة على حي المدارس و الجمارك الذي كان يقيم فيه خميس.
كانت حصيلة هذا الاستهداف الممنهج لقبيلة المساليت أكثر من ثلاثة ألف قتيل. من يوم 24 ابريل حتى يوم 9 يونيو فقط، استقبلت عيادة الانقاذ 1124 قتيلاً وأكثر من ألفين جريحاً وإن عدد الذين قتلوا في 14،15,16,17 يونيو يتجاوز أكثر بثلاثة مرات حصيلة القتلى في خلال 47 يوم منذ بدء الأحداث.
[لأسباب تتعلق بالصدمة، لن يصف هذا المقال الأيام من 14 إلى 16 يونيو/حزيران، عقب مقتل والي غرب دارفور، خميس عبد الله أبكر، بعد ساعات فقط من اعتقاله من قبل قوات الدعم السريع في الجنينة. وكان قد ندد، في مقابلة تلفزيونية، بحملة العنف والقتل المكثفة التي تشنها الجماعة شبه العسكرية ووصفها بأنها إبادة جماعية.]
لاجئي شرق تشاد يتقاسمون المعاناة
مرت ثلاث أشهر منذ بدء عمليات التهجير القسري لسكان مدينة الجنينة ومحلياتها، مازال في كل يوم تتوافد عشرات الأسر إلى أدري من مناطق متفرقة خوفاً من حملات التطهير العرقي التي تمارسها مليشيات القبائل العربية والدعم السريع.
هذه الرحلة الشاقة تعكس أن لكل لاجئ قصة هروب مرعبة إلى تشاد، حكايات مؤلمة تسمعها عند التوقف مع كل شخص، في طريقهم إلى أدري، عانوا أهوال لا تمت للإنسانية بصِلة، قصصهم عن محاولة الهروب من موت محتوم في الجنينة إلى مصير مجهول في معسكرات الذل يندي لها جبين الإنسانية.
حتى الآن لا توجد أرقام دقيقة لعدد الفارين من هناك، لكن يقدروا بحوالي أكثر من 800 ألف شخص فر من مدينة الجنينة ومدن صغيرة وقرى مجاورة إلى دولة تشاد للنجاة بأنفسهم من وحشية الدعم السريع والمليشيات العربية المتحالفة معها.
هؤلاء اللاجئون يعيشون ظروف إنسانية بالغة التعقيد، إن معاناتهم لا تنفصل عما حدث في مدينة الجنينة، مورني، مستري، سربا وباقي المدن التي كانت تحت الحصار لفترة شهرين. ومع تلك المأساة الماثلة فهم مازالوا يوجهون نوع آخر من المتاعب بسبب قلة توفر المواد الغذاء مستلزمات الايواء.
تزداد مأساة اللاجئين في كل يوم بسبب ارتفاع درجات الحرارة أثناء النهار وهطول الأمطار المتواصل وانتشار البعوض الناقل للملاريا مع نقص في الأدوية وفقر الغذاء وعدم إنتظام الوجبات لشح الطعام. أصبحت اجسادهم عرضة لمختلف الأمراض التي تنتشر بشكل خاص بين الأطفال الذين يعانون سوء التغذية والحصبة. أكد أحد المراكز التي تعمل في معسكر أدري، أنه كل يوم يستقبل حوالي 25 إلى 30 طفل في عمر 5 إلى 9 شهور يعانون من حميات.
يعيش اللاجئون مع احزانهم في غربتهم على أمل العودة إلى وطن غادروه مجبرين، يتملكهم الحنين وأمنياتهم معلقة على رموش أعينهم أن يروا المفقودين من بناتهم وابناءهم وهم على قيد الحياة.
يعاني معظم اللاجئين من سوء الأوضاع في المعسكرات وضعف إستجابة المنظمات لتقديم يد العون الإنساني حيث أغلب اللاجئون يحتاجون إلى مراكز إيواء للوقاية من شمس النهار الحارقة والأمطار الغزيرة التي تستمر لساعات طويلة أثناء الليل، حيث أنه وبسبب إنعدام مراكز الإيواء يتكدس المئات منهم في ملاجئ صغيرة صنعت من البلاستيك والاقمشة.
منذ شهر بدأت UNHCR في ترحيل اللاجئين إلى معسكرات أخرى غرب جنوب أدري، مثل معسكر أبتنقي وأركوم. حيث تم ترحيل أكثر من 4500 أسرة إلى أبتنقي حيث قامت المنظمات الإنسانية بتشييد مخيمات ولكن هناك مشكلة إدارية في توزيع السكن حيث لا تزال مئات الأسر تتكدس في مراكز الاستقبال في ظروف إنسانية قاسية جداً منتظرين نقلهم إلى المخيمات. يعاني اللاجئون من بطء الاستجابة وعدم الاستماع إلى أصواتهم، حتى الذين تحصلوا الى خيم يشتكون من صعوبة الحصول على الماء حيث تبدأ رحلة معاناة النساء في معسكر ابتنقي مع بواكير كل صباح حيث تصطف العشرات منهن في الطريق إلى مصدر الماء للحصول على جركانة واحدة. منهن من تستطيع الانتظار الطويل على صف مضخة المياه اليدوية والأخريات يأخذنّ طريقهن إلى أسفل الوادي للحصول على المياه من حفائر صغيرة تتجمع فيها الماء، لا يهتمون بنقاء الماء حيث أن فرصة الحصول عليه تعد الأهم. أما البعض منهن يخرجن إلى مسافات بعيدة مختبئات من حرس حماية الغابات للحصول على حطب الطهي من الأشجار الجافة.
لا تزال استجابة المنظمات اقل من المتوسطة في تقديم المساعدات الإنسانية، هنالك أيضاً مشكلة في الخدمات العلاجية وتقديم الحصص الغذائية حيث تم توزيع حصة غذائية مرة واحدة فقط منذ وصول اللاجئين إلى تشاد ومن بينهم عدد كبير لم يتحصلوا على نصيبهم.